كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروي عن مالك نحوه، قالوا: لأن الصَّيد يضمن بقتله، وهو لم يقتله وإذا علم المحرم أن الحلال صاده من أجله فأكل منه، فعليه الجزاء كاملًا عند مالك، كما صرح بذلك في موطئه، وأما إذا دل المحرم محرمًا آخر على الصَّيد فقتله، فقال بعض العلماء: عليهما جزاء واحد بينهما، وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال عطاء، وحماد بن أبي سليمان كما نقله عنهم ابن قدامة في «المغني»، وقال بعض العلماء: على كل واحد منهما جزاء كامل، وبه قال الشعبي، وسعيد بن جبير، والحارث العكلي، وأصحاب الراي، كما نقله عنم أيضًا صاحب «المغني».
وقال بعض العلماء: الجزاء كله على المحرم المباشر، وليس على المحرم الدال شيء، وهذا قول الشافعي، ومالك، وهو الجاري على قاعدة تقديم المباشر على المتسبب في الضمان، والمباشر هنا يمكن تضمينه لأنه محرم، وهذا هو الأظهر، وعليه: فعلى الدال الاستغفار والتوبة، وبهذا تعرف حكم ما لو دل محرم محرمًا، ثم دل هذا الثاني محرمًا ثالثًا، وهكذا، فقتله الأخير، إذ لا يخفى من الكلام المتقدم أنهم على القول الأول شركاء في جزاء واحد.
وعلى الثاني على كل واحد منهم جزاء، وعلى الثالث لا شيء إلا على من باشر القتل.
المسالة الثامنة: إذا اشترك محرمون في قتل صيد بأن باشروا قتله كلهم، كما إذا حذفوه بالحجارة والعصي حتى مات، فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد منهم جزاء كامل، كما لو قتلت جماعة واحدًا، فإنهم يقتلون به جميعًا، لأن كل واحد قاتل.
وكذلك هنا كل واحد قاتل صيدًا فعليه جزاء. وقال الشافعي ومن وافقه: عليهم كلهم جزاء واحد، لقضاء عمر وعبد الرحمن، قاله القرطبي، ثم قال أيضًا: وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا فمرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له ذلك، فقال: عليكم كلكم كبش، قالوا: أو على كل واحد منا كبش، قال: «إنكم لمعزز بكم عليكم كلكم كبش».
قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد عليكم.
وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعًا فقال: «عليهم كبش يتخارجونه بينهم» ودليلنا قول الله سبحانه: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95]. وهذا خطاب لكل قاتل، وكل واحد من القاتلين الصَّيد قاتل نفسًا على التمام والكمال بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص. وقد قلنا بوجوبه إجماعًا منا ومنهم فثبت ما قلناه.
وقال ابو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدًا في الحرم وهم محلون، فعليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل أو الحرم، فإن ذلك لا يختلف.
وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل. بناء على أن الرجل يكون محرمًا بدخوله الحرم، كما يكون محرمًا بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي فهو هاتك لها في الحالتين.
وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي، قال: السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة. وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه.
وإذا قتل المحلون صيدًا في الحرم فإنما أتلفوا دابة محترمة، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة فإن كل واحد منهم قاتل دابة. ويشتركون في القيمة، قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا، اه من القرطبي.
المسألة التاسعة: اعلم أن الصَّيد ينقسم إلى قسمين: قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش، وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير.
وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة، وخالف الإمام أبو حنيفة- رحمه الله تعالى- الجمهور، فقال: إن المماثلة معنوية، وهي القيمة، أي قيمة الصَّيد في المكان الذي قتله فيه، أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصَّيد في موضع قتله، فيشتري بتلك القيمة هديًا إن شاء، أو يشتري بها طعامًا، ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر.
واحتج أبو حنيفة- رحمه الله- بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبرًا في النعامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به، لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر، وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه، ويختلف فيه وجه النظر.
ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95] الآية، فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي، ثم قال: {مِنَ النَّعَم} فصرح ببيان جنس المثل، ثم قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} [المائدة: 95] وضمير {به} راجع إلى المثل من النعم، لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير.
ثم قال: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] والذي يتصور أن يكون هديًا مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديًا ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، وادعاء أن المراد شراء الهدي بها بعيد من ظاهر الآية، فاتضح أن المراد مثل من النعم، وقوله لو كان الشبه الخلقي معتبراص لما أوقفه على عدلين؟ أجيب عنه بأن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصَّيد من كبر وصغر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص، قاله القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: المراد بالمثلية في الآية التقريب، وإذًا فنوع المماثلة قد يكون خفيًا لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة، ككون الشاة مثلًا للحمامة لمشابهتها لها في عب الماء والهدير.
وإذا عرفت التحقيق في الجزاء بالمثل من النعم، فاعلم أن قاتل الصَّيد مخير بينه، وبين الإطعام، والصيام، كما هو صريح الآية الكريمة، لأن «أو» حرف تخيير، وقد قال تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا} [المائدة: 95]، وعليه جمهور العلماء.
فإن اختار جزاء بالمثل من النعم، وجب ذبحه في الحرم خاصة، لأنه حق لمساكين الحرم، ولا يجزئ في غيره كما نص عليه تعالى بقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] والمراد الحرم كله، كقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} [الحج: 33] مع أن المنحر الأكبر مني، وإن اختار الطعام، فقال مالك: أحسن ما سمعت فيه، أنه يقوم الصَّيد بالطعام، فيطعم كل مسكين مدًا، أو يصوم مكان كل مد يومًا.
وقال ابن القاسم عنه: إن قَوَّمَ الصَّيد بالدراهم، ثم قَوَّم الدراهم بالطعام، أجزأه. والصواب الأول. فإن بقي أقل من مد تصدق به عند بعض العلماء، وتممه مدًا كاملًا عند بعض آخر، أما إذا صام، فإنه يكمل اليوم المنكسر بلا خلاف.
وقال الشافعي: إذا اختار الإطعام، أو الصيام، فلا يقوم الصَّيد الذي له مثل، وإنما يقوم مثله من النعم بالدراهم، ثم تقوم الدراهم بالطعام، فيطعم كل مسكين مدًا، أو يصوم عن كل مد يومًا، ويتمم المنكسر.
والتحقيق أن الخيار لقاتل الصَّيد الذي هو دافع الجزاء.
وقال بعض العلماء: الخيار للعدلين الحكمين، وقال بعضهم: ينبغي للمحكمين إذا حكما بالمثل أن يخيرا قاتل الصَّيد بين الثلاثة المذكورة.
وقال بعض العلماء: إذا حكما بالمثل لزمه، والقرآن صريح في أنه لا يلزمه المثل من النعم، إلا إذا اختاره على الإطعام والصَّوم، للتخيير المنصوص عليه بحرف التخيير في الآية.
وقال بعض العلماء: هي على الترتيب، فالواجب الهدي، فإن لم يجد فالإطعام، فإن لم يجد فالصَّوم، ويروى هذا عن ابن عباس، والنخعي وغيرهما، ولا يخفى أن في هذا مخالفة لظهر القرآن، بلا دليل.
وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل مدين يومًا واحدًا اعتبارًا بفدية الأذى، قاله القرطبي. واعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة، أنه يصوم عدل الطعام المذكور، ولو زاد الصيام عن شهرين، أو ثلاثة.
وقال بعض العلماء: لا يتجاوز صيام الجزاء شهرين. لأنهما أعلى الكفارات، واختاره ابن العربي، وله وجه من النظر، ولكن ظاهر الآية يخالفه.
وقال يحيى بن عمر من المالكية: إنما يقال: كم رجلًا يشبع من هذا الصَّيد، فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؟ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده، قال القرطبي: وهذا قول حسن احتاط فيه. لأنه قد تكون قيمة الصَّيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الإطعام.
واعلم أن الأنواع الثلاثة واحد منها يشترط له الحرم إجماعًا، وهو الهدي كما تقدم، وواحد لا يشترط له الحرم إجماعًا، وهو الصَّوم، وواحد اختلف فيه، وهو الإطعام. فذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يطعم إلا في الحرم، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم في موضع إصابة الصَّيد، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم حيث شاء. وأظهرها أنه حق لمساكين الحرم. لأنه بدل عن الهدي، أو نظير له، وهو حق لهم إجماعًا، كما صرح به تعالى بقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95]، وأما الصَّوم فهو عبادة تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق، فله فعلها في أي موضع شاء.
وأما إن كان الصَّيد لا مثل له من النعم كالعصافير. فإنه يقوم، ثم يعرف قدر قيمته من الطعام، فيخرجه لكل مسكين مد، أو يصوم عن كل مد يومًا.
فنحصل أن ماله مثل من النعم يخير فيه بين ثلاثة أشياء: هي الهدي، بمثله، والإطعام، والصيام. وأن ما لا مثل له يخير فيه بين شيئين فقط: وهما الإطعام، والصيام على ما ذكرنا.
واعلم أن المثل من النعم له ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون تقدم فيه حكم من النَّبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصَّحابة، أو التابعين مثلًا.
الثالثة: ألا يكون تقدم فيه حكم منه صلى الله عليه وسلم، ولا منهم رضي الله عنهم. فالذي حكم صلى الله عليه وسلم فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك، وذلك كالضبع، فإنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بكبش، قال ابن حجر في التلخيص ما نصه: حديث «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش» أخرجه أصحاب السنن، وابن حبان وأحمد، والحاكم في «المستدرك» من طريق عبد الرحمن بن أب يعمار عن جابر بلفظ سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال: «هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم»، ولفظ الحاكم «جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشًا»، وجعله من الصَّيد وهو عند ابن ماجه إلا أنه لم يقل نجديًا، قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق وقد أعل بالوقف. وقال البيهقي: هو حديث جيد تقوم به الحجة، ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير عن جابر عن عمر قال: «لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش». الحديث، ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير به موقوفًا، وصحح وقفه في هذا الباب الدارقطني، ورواه الدارقطني والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل»، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني، والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه، وقد أعل بالإرسال.
ورواه الشافعي من طريق ابن جريج عن عكرمة مرسلًا وقال: لا يثبت مثله لو انفرد، ثم أكده بحديث ابن أبي عمار المتقدم، وقال البيهقي: وروي عن ابن عباس موقوفًا أيضًا.
قال مقيده عفا الله عنه: قضاؤه صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له، وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم، والحديث إذا ثبت صحيحًا من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى. كما هو الصحيح عند المحدثين: لأن الوصل والرفع من الزيادات، وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف، وإليه الإشارة بقول صاحب «مراقي السعود»:
والرفع والوصل وزيد اللفظ ** مقبولة عند إمام الحفظ

... إلخ.
وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصَّحابة، أو ممن بعدهم. فقال بعض العلماء: يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد، لأن الله قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} [المائدة: 95]، وقد حكما بأن هذا مثل لهذا.